-

-

السبت، أبريل 17، 2010

تكست - صمت الابنية و كلامها بقلم د. أســـعد الاســـدي


صمت الأبنية وكلامها

* د. أسعد الأسدي

من نافذتي المسائية الواسعة أرقب الان وجه المدينة ، واذ يأتيني مشهدها المألوف ضامرا ، تقترح مخيلتي للمدينة مشهدا اخرا . أبنية مؤلفة من سطوح مميزة وعديدة ، ملونة بألوان شتى ، متجاورة ومتقابلة بزوايا علاقات متفاوتة . أبنيتي التي أراها في صورة حالمة للمدينة , هي أبنية لا تقول كل شيء , لأنه ليس من مهمة شيء أن يقول كل شيء , وليس في قدرته ذلك , بل المهم في الامر أن يقول المبنى شيئا ما يكون اسهاما يميزه . غير ان ما يمكن ان يقال يتطلب صمتا يأذن بالقول , يتطلب هدوءا وبياضا وما هو مألوف , كي يكون في تجلي ما يحضر نفاذا يجترح الجدة . اذ في فضاء الصمت والبياض والمألوف يمكن ان يحضر الصوت واللون والجديد . فيكون الصوت مسموعا وهو يغادر الصمت ، ويكون اللون مرئيا اذ يحل في البياض ، ويكون الشكل مدركا حيث يختلف عما هو مألوف . والاختلاف في أشكال الأبنية هو تحول نحو الجديد فيها , وأرتياد افق ما هو ممكن , والذي يكون في نيته التمكن من فهم ما هو معروف والنفاذ الى تيه ما هو قادم .

يقول المبنى شيئا عمَّ هو وعمَّ يقع فيه ، يقول شيئا عمن يسكنه وعن صخب الحياة وضوضاء الافعال اليومية التي تتراكم اثارها فوق جدرانه . يقول شيئا في حوار من يجاوره او يواجهه ، يهمس قولا في ما يسكنه وما يسكن اليه . يقف جدار المبنى في شكل يتوصل اليه ولون يتميز به ، كي يؤدي قوله في هدوء ووضوح . يعبر القول نافذة مشرعة الى الرياح والشمس , أو فوهة مضيئة في الليل في حديقة تغزوها ظلمة المساء , او تنفذ بين اشجارها خيوط ضوء المصباح الليلي الكسول . والقول في العمارة حضور وتحول . يؤدي رؤى ترقب ما حولها وتتدخل فيه . كما في اشكال ابنية تحكي اكثر مما تذكر , في اشكال متشظية وملتوية ومتداخلة , تكاد اذ تحضر تقول كلاما متواصلا وطويلا ، كثيرا ما يتنوع , غير ان فيه تميز دون لغو . عندما تصبح اشكال الابنية مألوفة يقل كلامها ويستحيل مع الزمان صمتا , وحيث يستحيل الشكل طرازا ينفذ الى لغته الهدوء ، وتضمحل ملامحه وهي تسكن طويلا في الذاكرة .

واذ نقترح المزيد من الأشكال ، قد نحفر مكعبا في المكعب ونزيحه قليلا ، او قد نلصق المكعب الى مكعب اخر ، او ان تكون العلاقة بينهما اشد شراسة ، اذ يخترق مكعب أول مكعب ثان ، تعبره كتل هرمية تبرز في جهة اخرى , غير ان تلك العلاقة وعلى الرغم من حدثيتها الصادمة ما تزال ممكنة القراءة . هي كتل متعددة في حركة نفاذ وتنافذ ، ومع ان في سكونها الكثير من الحركة ، وفي حدثها المزيد من التواصل , غير انها ما تزال مفهومة ، وهي تقول ما يمكن استعادته والتحاور معه . وهو غير ان تأتي بكل الاشياء والكلمات ، وتجاورها الى بعضها ، وتلقي بها واحدة فوق الاخرى ، أملا في قول جملة ، ليس في قدرتنا قراءتها على اية حال . كما في بيوت المدينة الجديدة وهي تحتل محيا الشوارع . تأتي بألوان وأشكال وتكوينات يفتقد حضورها الى التوافق . تتطاول مكوناتها الى الحضور في خيلاء وعناد . يصعب على بعضها ان تعي ما يحاذيها من اشكال او الوان , ينقطع خطابها في احيان ، اذ يصعب ان تأتلف في انتاج قول , فينتج عن حضورها هذيان معجم من المفردات التي تعجز عن اداء جملة مفهومة .

ولشدما تربكني نزوة البعض ، ان يثري واجهات الابنية بشطط من المفردات والعناصر المعمارية والاشكال ، دون تذكّر ان النصوص الابداعية هي موضوع للقراءة . ليكون الكلام هادئا وبصوت خفيض في حوارات الجماعة ، حيث يمكن ان تروى الحكايات دونما ارتباك . والاشكال يمكن لها ان تتجاور وتحضر الى بعضها في هدوء وحياد ، أملا في التلقي والقبول . غير ان تباري الاصوات والاشكال كما يقترح البعض , يوقعنا في الضوضاء والفوضى ، ولا مهرب عندها من مغادرة المكان .

ان علينا ان نحذر طويلا قبل ان نجاور لونا لاخر ، أو أن نقترح شكلا لصق اخر . فالأشياء تحضر الى بعضها ، غير ان الامر ليس سهلا كما قد نتوهم , أذ تأتي الاشياء والاشكال والالوان ومعها حكايتها التي ترويها ونقرأها ، ويصعب ان تجتمع حكاية لأخرى لايديم تواصلهما برهان . وقد نقترف على اية حال فوضى استحضار الاشياء ونتيه عند ذاك عن الانس بحضورها ، وتغيب الفة الاحتفاء بضيوف الوعي والتلقي .

ثمة عالم للكلمة وثمة عالم للاحساس ، هو اكثر اضطرابا وتطلبا الى العمق والرؤية في نية بناء النظام والقصد فيه , الأمر الذي يستدعي بدءا ان نعترف للاشياء بحضورها ، وان ندرك عمق اصواتها وحواراتها ، وان نتذكر ان للاشياء لغتها التي سبقت طويلا لغة الكلمات ، وأن لها اصوات تملأ العالم بالهذيان ، الامر الذي يدعونا الى تنظيم حضور الاشياء , وترتيب تجاور الاشكال والالوان والمفردات . فالعمارة ليست موسيقى متجمدة كما يحلو للبعض أن يقول ، بل صاخبة ، قبل ان نتدخل في تنظيم نغماتها في نص مكاني مقروء ومؤثر . والعمارة تدخّل في الشكل الواقعي للموجودات ، تكون لها عواقب مادية وشعورية مؤثرة في حياتنا اليومية ، وفي نمط علاقتنا مع العالم ، في حضورها الذي يصدم الوعي قبل ان تستدعيه الذائقة .

لا يخلو شيء من قول , كما يتبين لنا ذلك ونحن نتأمل خطاب الأشياء . وبين ماتقوله الاشياء ومايتلقاه المتلقي ، كيف للصمت ان يدلف الى المعادلة , ما لم تستحضره الاشياء معها ، وهي تأتي ليس بمحض القول بل والصمت ايضا . يأتي الصوت الذي يتلفظ الصمت , والصمت فضاء الكلام لا غيابه . واللون الذي يأتي بالبياض , اذ البياض فوهة الى اللون لا هوة اليه . والشكل الجديد الذي يذكر بالمألوف ويستحضر بقايا ما هو مدرك ، فلا يعود المدرك مفقودا في الغياب ، بل حالا في ما هو مختلف وجديد . في هيئة من اكتفى ومل الاحتفاء ، مباركا حضور ما هو قادم . وبين الصوت والصمت ، اللون والبياض ، ألجديد والمألوف ، تحضر الأشياء ناقعة بالوجود .

*معمار عراقي


ليست هناك تعليقات: