-

-

الاثنين، أبريل 19، 2010

تكست - الرماد يطال ضحكاتنا بقلم سهيل ياسين


الرماد يطال ضحكاتنا

* سهيل ياسين

لم اعد في النهاية، اكثر من راوٍ بالكاد يجمع شتات حكاياته ويخفق في كل مرة باستمالة الاخرين، لا ينصت اليه السامعون، الا لماماً، ترى هل كان ذلك تجاهلاً مقصوداً او عدم رغبة منهم ام لان ما يشغلهم من حزن معمم هذه الايام، كان هو اعظم من تخاريف مستعادة وثرثرة مكررة لكائن جاء ليشقى فقط، لم يغتنم من الحرب الاخيرة غير اوجاع جديدة ومقعد متهرئ للقيادة او ما تبقى من حطام شاحنة الجنود او ايفا العسكر القديم، اتخذه احيانا كرسيا قلقا للتأمل والكتابة، اتحصن به كلما شعرت بالضيق والتوتر، معتزلا زاوية ما في حوض سطح داري الخفيض، بمواجهة الشمس، استحضر كياناتي السردية بمشقة، من على هذه الغنيمة البالية، اقود عربة القص المتعثرة باتجاهات مجهولة تحددها لحظة الكتابة.


* **

يترصدنا عند كل خطوة، يتربص بنا ذلك الشرس الخفي، المجهول، العادل في توزيع القتل، انى مكان شئت على الكرسي الوثير، في اكتظاظ حافلة هرمة، عند المنعطف القريب، اقصى موطئ في الباب الشرقي، ادنى زاوية في باب المعظم، اينما اصبحت، فوق ناصية الطريق التي كانت يوما ملتقى اثيرا للاصحاب ومنطلقا اول نحو مباهج العاصمة، هل كنت تدرك ان اياما من الرماد قادمات عجلى تطال ضحكاتنا المجلجلة وخطايانا البريئة وتمحو اقدامنا الوئيدة على بلاط الطرقات في نهارات هادئة. جالبة الموت المعجل في مواسم الدم والقطاف الاسود للاحبة والاصدقاء، انت الان تمشي بحذر وحيدا خائفا في مركز المدينة القديم، تلك التي كان يقول عنها الصحب: باب المعظم عاصمة افراحنا، لا مواعيد ودية للاصدقاء ولا لقاءات صاخبة تجمعنا في بغداد الوسيعة، من يصدق ان شرفة في عمارة ما او نافذة في طابق علوي لعيادة طبيب هاجر قسرا او سافر سرا، تتحول الى منصة خفية لقناص يتعقب ظلال المارة، يتصيدهم في وضح النهار.

اعط ظهرك للريح القادم من جهة الميدان لان المسافة بينها وبين باب المعظم قرون لا تنتهي تحت قصف الهاونات ووابل الرصاص المنهمر بين حين واخر، فمن الشجاعة والفضيلة ان تحفظ لسانك وتنفذ بجلدك وتعود بالخضار.

* * *

اذا كان الوحيد القادر على تغيير الاشياء وتبدل ملامحها هو فعل التقادم وما يخلفه ايقاع الزمن البطيئ، فان الرعب والخشية من حصاد العنف الدموي هو اشد ضراوة في تغيير خارطة المكان، كل شيء تحول سريعا وبدا مريعا لا بحكم الزمن وبرغم البنايات هي البنايات والشوارع هي ذاتها وان حفتها موانع اسمنتية وحواجز سلكية، فظلال التوجس في كل وجهة يخطر، وشبح الموت يرف على وجه الاسفلت يملأ المكان كامنا في الزوايا والثنايا الخفية. كل شيء عصي على التوصيف ازاء ما يحصل من هندسة للخراب وما يؤثثه توقع طلقة طائشة وما ترسمه عبوات مفخخة من رؤى وخيالات مفزعة للمارة العابرين، الخاطفين خفافا نحو مخابئهم. محطة الحافلات الكبرى في الميدان ببغداد مصيدة للقتل والهلاك، الساحة تفقد الوانها، كانت تودع الغادين وتستقبل الآتين من اطراف بغداد، عمالا وطلابا وموظفين صغار، لم تعد تأوي الا انفاراً قليلة مرعوبة من مخلوقاتها الرثة الفقيرة، من باعة ومشترين، لا يلبثون طويلا، خشية العبوات المميتة، تختفي الان تحت حطامها الاشباح والممسوسين وانصاف العراة والمجانين والمشردين تتبعهم الكلاب السائبة.

عجل بخطاك الوجلة، فالليل يبدأ قبل اوانه والمسلحون واللصوص قد يهبطوا الى الشوارع والساحات على حين غفلة، توقفت العجلات وتعطلت المركبات فهي لا تذهب من هنا ولا تعود من هناك، لا تسمع سوى وقع خطاك غير الرتيبة، واطلاقات بعيدا تعلو، قد تتجدد هنا، بين لحظة واخرى، في مدينة كانت ضاجة بالحياة، تخفق الان في تحقيق موعد عابر فيها، او لقاء سريع مع صديق لا يبتعد عنك خطوات معدودة.

لا تدري على وجه اليقين، كيف تهيأ لك وانت تشق طريقك بصعوبة بالغة ان ترى في نهاية الشارع المفضي لمشفى المدينة الكبير، اقصى اليمين تحطم المبنى القديم للعمليات الصغرى، صالة ختان الاطفال والصبية وهي تتهاوى تحت خراطيم حديدية عملاقة تذكرت حينئذ قبل اكثر من اربعين عاما حين دفعت اليها عنوة خائفا كما هو انت اخذ بيدك مذعوراً تتمنع في الكشف عن ذكرك، حياء من الجراحين وخوفا من ذوي الصداري البيض يتناوب المشهد المختلط امامك، قطيع من مرضى وانصاف احياء واشباه موتى وجرحى يجلبون من نواح خفية عدة، تضيق الرؤية بزحمة وتلاحق التوابيت المحمولة فوق المركبات المنبثقة من نقطة تلاشي الافق في منتهى الشارع لتملأ الامكنة المحيطة والمجاورة، طقسا جنائزيا قسريا معلنا ومضافا لتاريخ القتل السري، ايام الدكتاتور قبل قدوم المحتل، اتنحى يمينا، احاول ترميم المشهد يسارا هنا كانت مقهى تزدحم بسواق وجباة الحافلات الحكومية يؤمها طلاب وشلة مثقفين ثوريين وعمال عاطلون لا يبرحون المكان الا اخر المساء، هنالك، قبالة موقف باص الركاب كان الحيز المفتوح مضاءً بحشد الحافلات الصاخبة بالناس ونداءات الباعة على الرصيف.



ما ابهج الحياة في الذاكرة، جامعيون يشقون طريقهم للدرس ورجال ونسوة يغذون السير الى مبتغاهم بهدوء جليل في ساعات تغسل المدينة شمس الصباحات، او تنعم بهدأة المساءات، الى الجوار فتية يحثون الخطى على عجل الموعد قد فاتهم في دار السينما او حلقة نقاش في بار نواسي او دورة دومينو او لعبة نرد في مقهى او التسكع عند ضفاف دجلة او جلسة سمر ليله الصاخب، ولابد ان يناكبك في الزحام جمع من شبان متحلقين حول اعلان مغر، او جمهرة عند بائع بطاقات اليانصيب، واشياء اخرى مبهجة، تتدلق في زمنك المستعاد بالكتابة ترى هل استطيع ان انفذ سرا داخل ما تصنعه اقلامي الخجولة واندس خلسة بين اوراقي الشاحبات، امكث طويلا، اغمض عيني حتى اجدني هناك في اللامكان.


* * *

الوذ بحافات البيوت الخلفية، لا اريد ان اكون وحدي ولا بصحبة احد سواي تلك هي الاستحالة غير الممكنة في شوارع مقفرة وامكنة لا توحي بغير حظر ذاتي للتجوال، انسل من الخلف خارجا الى الواجهة، وحيدا اخشى الوحدة يرافقني قلقي المتزايد اتوقع ان اكون صيدا سهلا، لاقل خطر يتهددني مستسلما لاول تحدٍ يواجهني، كيف لي ان اقترح على نفسي رفيقا لا اعرف ادنى شيئا عنه، يصحبني في طريق سالكة موحشة. التحق بي رجل غريب وقال بارتباك: اين وجهتك ياسيدي؟ قبل ان يتلقى صمتي اجابني: مادمت تقصد غرب النهر عبر الجسر فانا برفقتك!


اجتزنا دجلة، كأي مذعورين يوحدنا الصمت، كل يخشى رفيقه، كدت ارد بتأييد ما عن شيئ قاله، ولم يسعني سماعه وسط اصطخاب المروحيات الاميركية المحلقة قريبا من اعالي البيوت دانية تكاد تلامس رؤوسنا العارية.



عند هبوط المعبر الوحيد واجهتنا جانبا مساحات خضر تتدثر بسكون عزلة مغرية ومريبة، ترى هل بمقدوري ان القي بنفسي لهذه الحدائق المجاورة واسترخي الى مالا نهاية. خالية هي مهجورة رغم ائتلاقها وتوهجها لا تشي بالمسرة والطمأنينة، تحت هاجس الخوف، كيف لي ان البي دعوتها للابتهاج وانا منهمك في مسيري احاذر ظلي واعالج خطاي، في بقعة قد تمسي فجأة مهبا للقذائف والرصاص الذي يندلع بين فترة واخرى.


اجتزنا قواطع حجرية وعوارض مختلفة في شوارع شتى، اصطفت عليها مساكن وبيوت حملت رايات ولافتات سود، تعلن عن اسماء قتلى وشهداء مغدورين، دون ان يفضي احد لاخر بعبارة ما، حتى وان كانت كلمة واحدة، او تافهة في الاقل، تنم عن معنى للتواصل والرفقة الحميمة.


فجأة وفي غفلة مني ابتعد رفيقي مندفعا في منعطف فرعي يلوح لي بتحية الوداع وجلا، لمحته لعله كان في اكثر الظن لا يستطيع العدول مثلي عن فكرة ان هناك احساسا مريبا بالخطر لابد للاحتراس منه، يكاد يبدر من الرفيق الاعزل .

* كاتب عراقي



ليست هناك تعليقات: