اللسانيات الإدراكية : تأطير
* د. عادل الثامري
تعد اللسانيات الإدراكية من أطر العمل ذات المرونة الكبيرة وهي ليست نظرية منفردة بل يمكن أن تعد مجموعة من مراكز أو بؤر الدراسة اللسانية التي ترتبط ببعضها البعض بواسطة ما يمكن أن يطلق عليه أسم المنظور المشترك ، وتؤكد اللسانيات الإدراكية على حقيقة مفادها أن تعريف صنف ما قد يتطلب وصفاً لما يشتمل عليه ذلك الصنف من عناصر وليس تعريف الصنف تعريفاً مجرداً .
واللسانيات الإدراكية جزء لا يتجزأ من مجموعة المباحث اللسانية المسماة المباحث الإدراكية والتي تشتمل على مجموعة الجهود البحثية التي تعد اللغة ملكة ذهنية وإدراكية . ولا بد لنا هنا من أن نميز بين اللسانيات الإدراكية من جهة وبين النحو التوليدي من جهة أخرى ، إذ أن النحو التوليدي يعد مبحثاً إدراكياً كذلك . ومن ألأسس التي تبنى عليها اللسانيات الإدراكية هو أن اللغة معنى بالدرجة الأولى : أي أن اللغة أداة لتنظيم ومعالجة ونقل المعلومة . والأساس في هذا المبحث وفي هو الدلالة وفي المقابل نجد أن النحو التوليدي يذهب بالاتجاه الآخر إذ يعد اللغة شكلاً: مجموعة من القواعد الشكلية والبني النحوية. بيد أن ذلك لا يعني أن النحو التوليدي ليس مبحثاً إدراكياً . المهم هنا هو النظر إلى اللغة ليس بوصفها معرفة باللغة بل إنها بذاتها شكلاً من أشكال المعرفة ، ولا بد من تحليلها طبقاً لهذا الفهم مع التركيز على المعنى .
وإذا ما قارنا بين اللسانيات ألإدراكية ومناهج الدرس اللساني ألأخرى ـ فيما يتعلق بالمعنى ـ نجد أن المناهج الوظيفية تذهب بنفس الاتجاه ـ وكذلك يصدق هذا الأمر على علم الدلالة الشكلي أو الصوري .يعتمد المعنى اللغوي كما أسلفنا على المنظور أي أنه ليس انعكاساً للعالم الخارجي بل هو طريقة لتشكيل العالم وهذا يمكن تفسيره بالاعتماد على المنظورات المكانية التي تظهر في التعبيرات اللغوية وكيف أن الموقف نفسه يمكن أن يفسر لغوياً بأشكال متعددة . إذاً, يمكن القول أن اللسانيات الإدراكية هي محاولة لتحليل المنظورات المتعددة في اللغة .
ومن الأسس النظرية للسانيات الإدراكية هو أن المعنى ديناميكي ومرن وذلك لأنه يتغير لارتباطه بل وتشكيله عالمنا , والتغييرات في محيطنا تتطلب أن نكيف الأصناف الدلالية مع التحولات التي تحصل في هذا المحيط مما يترك هامشاً أو مكاناً لظلال المعاني , لذا لا يمكن أن ننظر إلى اللغة بوصفها بنية ثابتة كما كان الأمر في لسانيات القرن العشرين وننظر إلى المعنى بوصفه متأصلا في التجربة مما يعني إن المعنى اللغوي يتكامل مع جوانب التجربة أو الخبرة الأخرى . ويعد هذا الأمر تغيرا جوهرياً في المجرى العام للدرس اللساني الذي ساد في القرن العشرين إذ كان ثمة إتجاه عام لغرض التمييز التركيبي للغة ومستوى الاستعمال وهو التمييز الذي مثلته ثنائية دي سوسير (اللغة والخطاب ) وأستمر الاهتمام باللغة بوصفها نظاماً تركيبيا تجريديا وأهملت دراسة الخطاب في الإرث اللساني التوليدي .
غالباً ما يشير اللسانيون الادراكيون إلى التمييز بين المناهج الشكلية والمناهج الوظيفية لدراسة اللغة إذ يرون أن النحو التوليدي بوصفه منهجاُ شكليا يقترن بنظرة محددة للغة والإدراك تنص على إن معرفة البنى اللغوية والقواعد تشكل مقدرة مستقلة عن الصيرورات الذهنية مثل الانتباه والذاكرة والتحليل اللساني المختلفة كالصوتيات والنحو والدلالة تشكل قدرات مستقلة . وطبقا لمثل هذه النظرة فأن الاختلاف هو اختلاف نوعي وهو تشخيص يركز على المضامين الابستمولوجية للمناهج الشكلية عموماً .
أما المناهج الوظيفية التي يتماشى معها اللسانيون الادراكيون فهي تنطوي على نظرة مختلفة للغة , خارجيا تشتمل مباديْ إدراكية عامة وداخليا ينبغي للتفسير أن يتعدى الحواجز بين مستويات التحليل اللساني ينبغي أن تتم في آن واحد .
إن هذه المقاربة للغة تحاول كسر التجريدات و التخصصات التي تتسم بها المناهج الشكلية , فعلى سبيل المثال ثمة تجاهل أو ربما قفز على التمييزات بين المعرفة اللغوية والمعرفة الموسوعية وكذلك بين اللغة المجازية واللغة غير المجازية , كما أن اللسانيون الادراكيون يشاركون المنهج الوظيفي في التمييز بين مستويات التحليل اللساني , ويرون أن الدراسة التركيبية لا يمكن أن تكون ذات فائدة بعزل عن مستوى التحليل الدلالي والتحليل التداولي . والتمييز الأخر الذي لا يقبل به الادراكيون هو التمييز الذي أتى به دي سوسير بين اللسانيات السنكرونية واللسانيات الدايكرونية (التاريخية ) فالتراكيب النحوية بنظرهم قد أصبحت على ما هي عليه بفعل فترات طويلة من الاستعمال وعمليات التغيير في اللغة واضحة ولها علاقة بفهم الاستعمال الحالي للغة .
تقدم اللسانيات الادراكية ثلاثة فرضيات يسترشد بها الإطار اللساني الإدراكي في التعامل مع اللغة وهي :
أ ـ اللغة ليست قدرة إدراكية مستقلة
ب ـ النحو هو عملية خلق للمفاهيم (أفهمة ) مما يعني أن اللغة رمزية بتطبيقها
ج ـ المعرفة باللغة تأتي من الاستعمال اللغوي
وهذه الفرضيات الثلاث تمثل رد اللسانيات الإدراكية على النحو التوليدي الذي يفصل بين الملكة الإدراكية والقدرات الإدراكية غير اللغوية , وكذلك هي رد على علم الدلالة المشروط بالصدق والذي يقيم الميتالغة الدلالية استنادا إلى صدقها أو كذبها بالنسبة للعالم .
يمكن القول أن اللسانيات الإدراكية تركز على التمثيلات الذهنية والصيرورات الادراكية وإنها بدأت مؤخرا في النظر إلى الخطاب والفرضية الثالثة توفر فرصة كبيرة للسانيات الإدراكية كي تدرس الطبيعة الاجتماعية التفاعلية للغة , وذلك لان الاستعمال هو تفاعل اجتماعي ويستعمل المتكلمون خبراتهم من اجل توصيل تلك الخبرات إلى الآخرين . تمتلك اللسانيات الإدراكية إمكانية كبرى لتساهم في نظرية اللغة تتجاوز الإدراك وكذلك نظرية الإدراك تتجاوز اللغة . فاللغة رمزية لأنها تستند على الارتباط بين التمثيل الدلالي والتمثيل الصوتي وهذا الارتباط بين هذين القطبين المختلفين يشير إلى مفهوم العلاقة اللغوية عند دي سوسير مع فارق جوهري وهو اعتباطية العلاقة .
* أكاديمي وإعلامي عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق