تمثال فرات صالح
قراءة في وجع الحرب
* حسين سرمك حسن
وقد نشر ملحق ألف ياء الزمان الغراء قصة قصيرة مهمة عنوانها : " التمثال " لهذا الكاتب تعالج موضوعة الحرب أيضا ( السبت – 2/5/2009 ) . والقصة تُحكى بضمير المتكلم ، ويستهلها القاص بمشهد الخراب الشامل الذي يخيم على حياة بطله الشخصية وحياة المدينة على حدّ سواء : " الصحب – الذين لازالوا أحياء - تناثروا في الجبهات البعيدة ، وسماء المدينة مسرح ضيق للإنفجارات المدوية : تم .. تم .. تم .. معزوفة الليل والنهار التي تصم الآذان " . ولأن فرات شاعر مجيد أيضا كما تجلى ذلك في مجموعته الأولى : " وصايا الطباشير " فقد انعكست هذه السمة على اللغة الشعرية الآسرة التي يجسد فيها خسارة بطله المريرة لحبيبته – بعد أن خسر أصحابه الذين " مازالوا أحياء " وهذا تعبير عن خسارة جسيمة أخرى للأصحاب الذين لم يعودوا أحياء : " حبيبتي غادرت مع عائلتها نحو مدينة أخرى لتعلن آخر قطرة دم انسحابها من قلبي الذي تنازعته قطرات الليل المزدحمة بالجنود والأحلام المميتة " . ومن هنا – من الاستهلال الدامي هذا – ينطلق القاص / الشاعر – وبطل القصة شاعر أيضا – ليرسم لوحة الخراب الذي تخلقه الحرب وكيف تنمسخ فيها معاني الحياة البشرية ، فتبلّد مشاعر الإنسان وتحول موضوعة الموت والحياة الجليلة إلى لعبة : " بكاء ابنة الجيران الصغيرة لا ينقطع ، بينما راح أخواي يختصمان على قذيفة قال إنها ( لهم ) بينما أكدت : ( لنا ) وعلا زعيقهما إلى أن أسكتهما مؤقتا دوي قذيفة جديدة " . ولأن الراوي قد حوصر بأذرع الخواء الأخطبوطية وتلاحقه القذائف والشظايا من الجبهة إلى البيت فهو يفكر كيف تكون القذائف مسلية ، يجعلها لعبة للتسلية في وقته الفائض وذلك من خلال قيامه بعدّها . وهنا يواصل لعبته السردية الحاكمة التي تقوم على أساس مقابلة الموت ممثلا بالقذائف وشبح المثكل الذي يلف المدينة بكل مكوناتها بشرا وأشياء ، والحياة ممثلة بارتباطه العشقي بحبيبته التي رحلت وبقت ذكرياته معها متوهجة ضاغطة . لكن كل واقعة أو ميل أو رغبة في ظل الحرب تُجهض ذكرى حميمة أو موقف دافيء مع حبيبته . يقابل أولا بين قطرات الليل المزحومة بالجنود والأحلام المميتة مع قطرات دموع حبيبته التي تنحدر في راحتيه . وقد أمضه التساؤل الوجودي المحيّر : أين أمضي وأنا القادم من القرون الطويلة ؟ تأتي الحيرة مضاعفة لتلف الحبيبين المعذبين : ( اليوم أسندت رأسها إلى كتفي وداعبت شعرها . أحسست بدمعتين صامتتين تنحدران في راحتي ، وبعيني سألتها ، فأومأت إلى الجبهة المشتعلة ) أي قرون أكثر طولا من هناك ؟ . ونستمر في لعبة " القطرات " المتقابلة إذا جاز التعبير .. قطرات الموت السوداء الثقيلة الوقحة المستخفة بكل شيء ، مع قطرات الحياة المنخذلة التي فقدت معانيها الجمالية ولم تعد تعني شيئا : " لابد لي أن أبتكر تسليتي : مثل أن أعد القذائف المنهمرة كالمطر . ( كانت السماء تمطر بغزارة حين سحبتني من يدي قائلة : سترى كم هو رائع السير تحت المطر ؟! – لكنه يجعلني حزينا !! ) أضعت عدد القذائف فشعرت بالغضب " . كل شيء يتهاوى ويتهشم . والأهم هو صوت تهشم روح الراوي المحاصر بالخسارات والعذابات . حتى أماني الطفولة وهي قطرات وردية باهرة تشيع الأمل في أرواحنا بالحياة والنماء تهشمت . لقد وعد جدته بأن يشتري لها قصرا كبيرا وطائرة بدون باب ( حتى لا تسقط منها كما سقط المشير ) وهذه واحدة من توريات فرات المسمومة .. لكنه الآن .. وأصوات الطائرات الحربية المرعبة وهي تخترق حاجز الصوت وتهز الشبابيك وتمزق سماء المدينة بات يكره الطائرات : ( قالت " الجدة " ضاحكة : هل تذكر وعدك لي بقصر وطائرة من دون باب ؟ - لقد كرهت الطائرات ، فهل لك أن تكتفي بالقصر يا جدتي الرائعة ؟ ) .. وفي وصف الراوي الكسير للكيفية التي خسرت بها جدته أبناءها في الحرب واحدا بعد الآخر وجه آخر لمحنته الفاجعة والتي تتمثل في نفض اليد من كل ممكنات الحياة الطقوسية والفلكلورية التي تحمل بعدا خلوديا رمزيا ( طاسات الماء التي رشتها الجدة خلف أبنائها لا جدوى منها ، والحناء التي لطخت بها مراقد الأولياء لم يعد لها من معنى .. النذور والأدعية تقدم للحي الذي لا يموت : الموت ) . خواء واغتراب واستلاب وشعور مرير باللاجدوى من هذا العبء الذي يسمى الحياة . في أعماقه رسّخت الحرب حقيقة ماحقة هي أن لا شيء يستحق . فبعد أن يهدأ القصف يقرّر الخروج - رغم قلق جدته - تحت مسوّغ يعكس عبثية الوجود ولا معناه : " إن لم تنجح الشظايا في اصطيادي في الجبهة ، فهي بالتأكيد لن تتمكن مني هنا !! ) . إنه غريب الوجه واليد واللسان : ( قلت لها ويدها ترف بين يدي مثل فاختة مطمئنة – والفاختة المطمئنة لا ترف فانظر إلى القلق وإلى الإرباك الذي سمّم أسلوب القاص - : إن ضيعتني الخنادق يوما فاذكريني عندما تمرين بهذا التمثال ، فروحي ستكون حائمة حوله إلى الأبد . أفلتت يدها من قبضتي : دعك من هذا الحديث . إنك لا تشبه السياب أبدا . – إننا شقيقان ؛ أبونا الفقر وأمنا الغربة . – هل تتكلم عن الغربة وأنت معي ؟ ابتسمت ولم أقل : - إنني غريب عن جسدي ، والعناكب تبني شراكها فوق روحي ) . يخرج الراوي تحدوه رغبة مجنونة في رؤية تمثاله الحبيب ؛ تمثال السياب الذي مهّد له بخطوات الغربة والمطر الحزين والجدة المثكولة والحبيبة الحيرى والأطفال والأسلحة ( السياب هو أسطورة العراق ) .. ووسط اعتراض سائق التاكسي المنطقي : ( حين يكون الخطر محيطا ببني البشر ، من يسأل عن التماثيل ؟ ) .. تهيج الرغبة الشعرية العارمة – والراوي والقاص شاعران كما قلنا – لتوقف أحكام العقل الباردة وتعطّل مبدأ الواقع ليشتغل مبدأ اللذة .. اللذة الطفلية النقية الكاسحة في التشبث بأذيال الحياة لمقاومة – أو للهروب من ، لا فرق – مخالب المثكل الباشطة . لذة طفلية تؤنسن وتشخصن وتحيي وتميت . هاهو شاعرنا يحيي الحجر ويؤنسن البرونز ، فيصعد قاعدة تمثال السياب ويحيطه بذراعه ويعانقه : ( وانخرطنا في البكاء .. حدثت التمثال عن حبيبتي التي غادرتني وعن الموضع الضيق وعن قصائدي الجديدة ، وحدثني عن أحزان المراكب الغارقة والنوارس التي لم تحلق منذ زمان . وحدثني عن الشظايا التي اخترقت جيب سترته وقال ضاحكا : - حمدا لله فلم تكن فيه نقود ) .. وسط ظلمات الوجع المدلهمة تأتي السخرية السوداء دفاعا وعلاجا نفسيا تخديريا .. وحتى على الموت يمكن أن تتحايل قوى اللاشعور فتجعل من الفناء منفذا لرغبة أصيلة في النفس البشرية .. تجعله عودة مباركة إلى الرحم الأمومي ممثلا بالماء .. وبلا عزلة هذه المرة وليس وحيدا أبدا ، بل ملتحما بحبيبته .. قطرتان ناعمتان تغوصان في أحشاء هذا الرحم الكوني المتلاطم القطرات .. تضيعان هربا من الخراب والموت وعبث الوجود الذي رسمته الحرب : ( عاد القصف فجأة .. ودوى انفجار هائل وامتلأت رئتي بالدخان ، فتذكرت أغنية شائعة عن رائحة البارود .. رأيت حبيبتي يتلألأ جسدها في ضوء الشمس وقطرات الماء تتساقط منه مثل لآليء ثمينة .. سمعت التمثال يصيح بي ( لا تنس القصائد ) لكنني كنت مشغولا بحبيبتي .. ابتدأ الماء يعلو جسدينا .. عانقتها ونزلنا نحو القاع ولم نخرج لحد الآن ) .
* ناقد عراقي مقيم في دمشق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق