-

-

الأحد، أبريل 18، 2010

تكست - الكابتن مشاري / كتابة جابر خليفة جابر



الكابتن مشاري



* جابر خليفة جابر

لم ينتبه المستشرق الروسي وهو ينسخ على الالة الطابعة احدى المخطوطات الفاطمية في مكتبة خان الخليلي الى انزعاج نساخي الكتب المصريين منه وقلقهم على مصدر رزقهم من آلته الطابعة ، لم ينتبه لهم لكنه كتب في مذكراته -اوائل القرن العشرين -(( لعل هؤلاء الذين اراهم في مكتبات القاهرة ينسخون الكتب والمخطوطات بايديهم مقابل اجرة هم اخر ما تبقى من اجيال مهنة النساخين ...

انهم ثمالة الجيل الاخير ))

_ لا اتذكر اسم المستشرق الروسي ولا عنوان كتابه الذي قرأته منذ عشر سنوات ولا ادري ان كنت اشتريت ذاك الكتاب ام اهدي الي ام استعرته؟

لا أتذكر منه إلا جملته تلك التي كتبها في مذكراته عن الناسخين.. فقط عبارته تلك تعيش معي الان وترتسم امامي كلما فكرت في هذا التحول المقلق – لي- من عصر الورق والكتب وارفف المجلدات الى عصر الرقائق الالكترونية والاقراص الليزرية. اتذكرها كلما اضطررت لتصفح الانترنت او فتح البريد الالكتروني، ينتابني شعور بالخوف من ضياع ما اكتب او اختفاء ما يرد الي من ملفات وصور ورسائل ، شعور باللاثبات، كل شيء قد يمحي ويتطاير في لحظات ...

مكتبتي احبها منذ صغري، تكبر كلما اكبر ، عاما بعد عام كانت تكبر معي وكنت احب سكانها ، اصدقائي من مختلف الشعوب والبلدان،و دائما دائما اختلي بهم، وحدنا نختلي ، اسراري ابوح بها لهم وحدهم ، لا يعرفها غيرهم ولا يفشونها لاحد ، امناء دائما هؤلاء الاحبة، اما الان في عصر السرعة والعزلة والقلق هذا عصر الكومبيوتر والانترنت فان الانكشاف امام الاخرين يرعبني

،قراصنة الانترنيت، الهايكرز، الفايروسات، كل شيء مقلق ومقرف . اين هذا من متعة الورق وامانته وديمومته .

قلقي ومقتي للرقائق الالكترونية وبرامج الوورد والاكسل وغيرها وانحيازي لعالم الورق الممتع وثقافته جعلني امتنع عن فتح الايميل اياما قد تطول ...

طالما ازعجتني كثرة الوارد من الرسائل ، اغلبها تافهة لكنها احيانا تضم نوادر، اندم لتأخري عن قراءتها ، كتلك التي حملت اسم ( مشاري ) صديق الطفولة . في البدء لم اعرفه ولم اتذكر اني سمعت به ، كما لم اكلف نفسي السؤال عنه ، كنت متعبا ، قرأت رسالته قفزا وبسرعة ثم اعدت ارسالها اليه REply مع كلمات شكر ومجاملة كعادتي مع اكثر الرسائل الواردة ، لكن وانا في الفراش وبعد تلاوتي سورة الواقعة كما افعل كل ليلة اضاء اسم مشاري ذاكرتي ، من مشاري هذا ؟

نهضت الى الايميل لاقرأ رسالته ثانية لكن فوجئت باختفائها من inpox ومن صندوق الارسال sent اما المفاجأة الاغرب فهي ورودها بعد لحظات .. كأنني ارسلتها لنفسي

From;jabir_kh@yahoo.com

To; jabir_kh@yahoo.com

كنت انا المرسل وانا المرسل اليه ، بعض من غرائب الالكترون وعصره الشبحي، لم اتوقف عندها طويلا ،عزوتها لجهلي بالالكترونيات ولاميتي الرقمية وقرأت رسالة مشاري الي او رسالتي اليه ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اخي ، انا مشاري احد اصدقائك من الطفولة ، عرفت بريدك من الانترنت ، ما شاء الله اصبحت شهيرا ، اخي اعرض عليك باختصار حكاية تلح علي لعلك تستطيع صياغتها بطريقتك ، انت قاص معروف وانا الان في عرض البحر قبالة الساحل الهندي، حكاية تعود الى ايام الفاو الجميلة تذكرتها حين قرأت على ظرف رسالة لاحد المسافرين على سفينتي هذا العنوان(العراق-الناصرية-شارع الحبوبي-قرب معرض الشارقة للسيارات... )معرض الشارقة، شدني اسم المعرض واعادني الى تلك الايام ، ايام الطفولة والمدرسة والناس الطيبين في الفاو ،والان وانا اجلس في كابينتي ولا ارى من نافذتها سوى البحر، لا اجد اقرب منك ،سأبعثها لك وكما يفعل البحارة القدماء سأكتبها ايضا في ورقة وأضعها في قنينة زجاجية وارمي بها في البحر ، هذه الطريقة في ارسال الرسائل شائعة بين البحارة وسكان السواحل ، اتذكر انك كنت تحب الكتب والمطالعة ، اتذكر ولعك بها جيدا والان اصبحت كاتبا معروفا ،مبروك عليك ،ربما نسيتني ولكني واثق انك ستذكرني اذا قرأت الرسالة ( تذكرته صاحب قديم لي افترقنا منذ غادرنا الفاو بسبب الحرب قبل ربع قرن )

اعمل الان كابتن بحري، قبطان سفينة وكان النوخذة الذي تعرفت عليه وانا طالب في الابتدائية اسمه مشاري ايضا ، هذا الرجل الاشيب هو الذي جعلني اتمنى ان اكون نوخذة مثله ، كذلك مرورنا اليومي انا وانت كلما دق جرس الخروج من المدرسة بالسفن الشراعية واللنجات والبحارة جعلني احب السفن واعشق الحياة في البحر، تعرفت على شعوب وموانئ كثيرة اعرف عدة لغات واقمت سنوات عديدة – سنوات الحصار – في الامارات اعمل في دبي واقيم في الشارقة الاجواء هناك هادئة وعائلية وتوجد عدة احياء تحمل اسماء عراقية ، الحيرة ، واسط ، الناصرية ، ...

لذلك حين قرأت( معرض الشارقة )ثارت الذكريات ولم تتسن لي الكتابة الا الان فاخترتك يا صاحبي وكتبت اليك... يوم التقيت النوخذة مشاري كنا معا انا وانت، خرجنا من المدرسة سوية ، سرنا مع ضفة شط العرب وكانت الابوام الشراعية واللنجات الراسية كثيرة والبحارة ما اكثرهم هنود وبلوش وعرب، حينها عبر رجل كبير السن ،لحيته بيضاء، فارع القامة، قنطرة خشبية بين سفينته والشاطئ ،عبرها بثبات ووقف البحارة احتراما له، سمعناهم يقولون جاء النوخذة مشاري...جاء النوخذة ،ولأن اسمه مشابه لاسمي انتبهت اليه، تركتك وذهبت اليه ،قلت له السلام عليكم نوخذة انا مثلك اسمي مشاري. فانحنى علي، كان طويلا ، وقبلني وهو يبتسم ،ثم اخرج دراهم من جيبه فرفضت اخذها ، رفضت بشدة ،قال لمن حوله من البحارة: العراقيون خشومهم عالية حتى اطفالهم .

فقلت له وانا انفخ نفسي لابدو كبيرا : نوخذة انا كبير ..

ابتسم بأبوة، اتذكر ابتسامته الحانية الى الآن،لمعت عيناه بشىء من الدمع،ابتسم ثم قبلني مرة اخرى وقال :اذن خذ هذه الدراهم من عمك مشاري انا عراقي ايضا يا ولدي لكن من الشارقة. فرفضت مرة اخرى، سكت النوخذة قليلا، اعاد الدراهم في جيبه وقال لي وهو يمد يده الى جيب صدريته الداخلي.

: هل تقرأ القرآن يا مشاري ؟


قلت نعم واليوم امتحنَا في سورة الكوثر، تلوتها عليه فدمعت عيناه وقدم لي مصحفه الصغير وقال لي : هذا كتاب الله ،القرآن، كل شي في الدنيا يتغير وهو باقي ، ادعو لي يا مشاري كلما قرأت فيه... وما زلت الى الان احتفظ به وادعوا للنوخذة مشاري . حين عدت الى البيت ، فرح ابي لمَا سمع بذلك ، وجاء معي في الغد وهو يحمل على دراجته خصافة تمر وكيس من حناء الفاو العطرة . لكننا وصلنا متأخرين ...

كان البوم الكبير قد ابتعد عن الشاطئ قليلا ، اشرعته ترتفع وعلمه الاحمرالمحاط بالبياض يرفرف من اعلى الصارية .

حزنت يا صاحبي وترقرقت الدموع في عيني ( انا الان اكتب اليك وابكي ) تخيلت النوخذة ينظر الينا ويلوح، تخيلت البحارة يلوحون .. فلوحت لهم بيدي وكنت ابكي، ورأيت ابي يلوح ايضا .

اتذكر تلك اللحظات كاني الآن واقف مع أبي على ضفة شط العرب ونحن نلوح ..

بعدها لم تعد السفن والابوام واللنجات الى الفاو، اندلعت الحرب وخرًبت كل شيء ،كان بوم النوخذة مشاري اخر السفن واخر الابوام التي رأيتها في الفاو...

اغمضت عيني عن شاشة الكومبيوتر قليلا ، تذكرت مآسي الحرب ، دماء الشباب،البواخر والزوارق الغارقة،بساتيننا المحترقة ، مجازر النخيل ، دورنا المهدمة ، مدابسنا ،ممالحنا ، تذكرت كل شيء وتذكرت صاحبي مشاري ، لكنني لا اتذكر ان كنت اكملت قراءة الرسالة ام غفوت وانا اقرأ ، فقط اتذكر الجمل الاخيرة فقد أذهلتني ، اعدت قراءتها مرارا وانا منذهل، لا ادري ان كنت احلم اثناء اغفاءتي القصيرة ام كنت فعلا اقرأ رسالة مشاري صاحبي او رسالة مدام شاري الهندية لا ادري فعلا (( وجد حفيدي شاندرا هذه الرسالة في شيشة جام عند الشاطئ ومنها عرفت عنوانك فبعثت اليك ،انا اعرف عربية زين شويه،زوجي كابتن وكنا في البصرة سنوات في الحرب عالمية التانية، آمل انا حققت امنية صديقك البحار الذي سمعت في اخبارT V قبل اشهر ان سفينة هو غرقت وهي تحمل مهاجر عراقيين الى استراليا ، اناعلمت ان كابتن سفينة ، صديق انت، احد الغرقى Iam sory for that اهل البصرة كثير طيب . الواجب يدعوني لاخبرك واعمل مسج اليك بالايميل )).

م شاري ، بومباي \ الهند

الامر غريب فعلا ،يبدو انهم غرقوا قبل ان يرسل مشاري رسالته عبر الانترنت ،فارسلتها هذه الجدة من الهند ،

كانت اخر رسائله ..

لعله حاول انقاذ اكبر عدد ممكن من ركاب السفينة وكان اخر من بقي على متنها كما تقتضي اعراف البحر ..

قد اكون انا ايضا اخر كتاب العصر الورقي ،

ربما ..

سأكتب- اذن- حكاية صاحبي الكابتن مع النوخذة مشاري ، اخر النواخذة ،

سأكتبها ، لعلَنا نبقى...

البصرة2009

* قاص عراقي

ليست هناك تعليقات: