طفل النخل .. وحراجة الأسئلة
في الاصبوحة التي انكفأ دورق طالب عبد العزيز في إتحاد الأدباء. فأخضل المكان واعشوشبت الجدران وانسلت الجداول من بيننا واحدودبة جذوع النخل فعبرنا إليه وقد تركنا اسمال حاضرنا وسجدنا أمامه نصف عراة أو شبه مجذوبين . كان طفل بضَّ الجسد . يترقرق من على كتفه ذلك الأفق الندي . وقد أطرقت يديه قابلة نثار الرماد يجلل غض الرؤوس . فأنصتنا إليه(لكّنُه الجنوب يضيق)
قدمه الشاعر الكبير كاظم الحجاج . وكعادته كان الحجاج ثراً معطاءً وقد بدا لنا كأنه يضيف طالب في بيتهِ . فأخرج أفضل ما عنده . وهو يقول :
( ولأنني أريد أن أقدم (طالب ) جيداً, فلا بد من العودة إلى لغته التي تفرّد بها , منذ بداياته كما قلت . فجملة طالب وتركيبها المتآمر . ثم إقفالها الختاميّ غير المألوفة . فأزعُم أن تلك اللغة هي خصيصة امتياز أولاً . وهي مأزق ٌ محير ثانياً , ما بين الشعر ولغة الشعِر . فجملته وحدها يمكن أن تمنحنا أنبهار الشعر ومفاجأته. لكنها قد توقع مبدعها ـ أعني اللغة ـ في وهم أن يكتبَ فحسب, لكي يُبهر. حتى أنه وبعدما زاد عددُ مجموعاتهِ الشعرية, صرنا نتساءل حذرين أو مشفقين: هل الذي صار يتكرر هو قصائد الشاعر, أم لغتهِ التي امتاز بها, حتى صارت ـ أو كادت تصير ـ قيداً على مبتكرها حتى وإن كانت قيداً من حرير ؟ )
كنت قد قرأت كثيراً لهذا الشاعر البصري طالب عبد العزيز . وأقول البصري لإيماني بان الفرادة لا تأتي بحشد العوامل . أنها انبثاقة واحدة في مكان واحد . وثم تشع فيستضاء بها . ولا أقرب إليه مما قاله الشاعر عبد الكريم كاصد بحق طالب عبد العزيز يصفه ب :(عميق الإدراك ) . والعمق والإدراك خصيصتان ليستا في المنظومة الافهامية للغة العربية تداولا . إذ يؤخذ معناهما في اللغة العربية من باب القياس والمقارنة . لا من جانب الوعي والإحاطة . كما في المفهوم الغربي للكلمتين . لذا استقدمها عبد الكريم كاصد . ليصف تجربة بحجم تجربة طالب عبد العزيز أحكمت نسج لغة تعد مثار تساؤل كما يقول الحجاج :
( اقترح لكي يكتمل هذا التقديم. أولاً : أن. يكشف لنا (طالب ) أسرار لغته . وجملته. ومن أين أتته. أو جاء بها ؟ هل هي من تأثيرات البيئة البصرية الريفيّة المتمد نة؟ أم من تأثير القراءات الأولى ؟ اعني . ما هي مصادره اللغوية والشعرية ؟)
وهنا بدأ طالب أكثر تألقاً فردَ : أنها تجربة حياة .!
وثانياً والكلام للحجاج : أقترح على طالب أن يحدثنا عن مؤهلات وجدارة قصيدة النثر على الاستمرار . وهل هي نهايات الشعرية العربية . أم هي لون ٌآخر وكفى ؟)
فينعقد الأمر للحضور وتتداخل الأصوات . إلا إن التجارب مواقيت لا تستعاد . فينخرط الجمع في صمت مهيب . طفل النخل ينثر الشِّعر .
( حين تكون البهجة داكنة )
في الحَانةِ التي على الشَّارع ِ ، بعينكاوة
ُتركتِ النافذةُ مفتوحة ً..
لِتَصْطَبِغَ السَتائرُ بظِلالِ المُتعجّلين .
النادِلةُ ببنطلونِها الجِينز،
مسيحية ٌ، من بغدادَ
قدَّمتِ البيرة َ(مكسيكيةً بالمِلح ِوالليمُون)
وغابتْ،
قلتُ : أنا مِنَ البَصرة،
لكنَّ الهواءَ تَنفسَها سَريعاً.
ظلَّ شَعْرُها ينهمرُ على الطاولات ِ
معَ الكُؤوس ِالتي تفرِّقُها
حتى إِنْتَصََفَ اللَّيلْ .
****
قُلتُ: كأساً منْ نبيذ ِالقَرية ِأحمرَ
أروَّي فَسيلَ الرُّوحِ .
كانتِ الرَّاقِصُةُ ُفي اللّوْحَة نائمة ً
والنادلة ُتروحُ وتغدُو بَينَ المَقاعد ِالخَيزران
هذا الجَسدُ النصَّرانيُّ يسبحُ دائِخاً
فيما ُيُصِّعدُ النبيذُ الجبليُّ ارتسامَ الصورِ على الحَائِط
No wine after beer
تقولُ النادلة ُ ِحكْمَتهَا الانكليزية َ، وتَنْصَرِفُ
***
ومثلُ عَرْض ٍمسْرَحيٍّ أخْيرٍ
كانتِ القاعة ُ شِبْه َ خاليةٍ منَ السُّكارى
أقل ِّمنهمُ، الذينَ غفوا على الطاولات ِ
أرففُّ البارِ سوداءُ
والنورُ الذي َظلَّ يسقط ُعلى زجاجاتِ النبيذِ
شيئاً فشيئا، كانَ أسودَ !
هلْ كانَ نبيذ ُالقريةِ يصِّعدُ البهجة َ داكنة ً؟
***
مِنْ جَدولٍ على السَّفح ِ يأتي النبيذُ ،
هذا الليلُ يُسرِّحُ الجَبلَ حَانة ً
وطفلُ النَّخل ِلمَّا يَرتو بَعْدُ
منذُ سَنواتٍ لمْ يقفْ على طاولتي نادلٌ
لمْ أرَ تعْتعَة َالندِّمان ِعلى الأبواب ...
***
مِنْ قَرية ٍ بالمَوصِل جاءوا به
تقولُ النادِلةُ :
فَيزَّلزَلُ وادٍ بينَ ذِرَاعيها
قلتُّ :أيّ أنتِ ، يا هذا ،
ليسَ للسُّكرِ، يزدحم ُالغرباءُ في حانتِك
لكنِّه ُالجنوبُ يَضِيقُ !
في قُدّاس ِ الآحاد، كانَ أبوُنا سُولاقى
راعي السِّريان ِ الكاثوليكِ بالبَصرةِ يقول :
تطولُ البنادقُ فيشحُّ النَّبيذ .
تكست
2010/2/6
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق