في العالم اليوم أحد عشر ديناً هي: (الزرادشتية، والجينية، والشنتوية، والبوذية، والكونفشيوسية، والهندوكية، والسيخية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبهائية). ويعاني أتباع هذه الديانات جميعهم من مرضٍ خطير هو مرض احتكار الحقيقة. وخطورة هذا المرض تكمن في أن صاحبه يعتقد أنه الوحيد على هذه الأرض ذو علاقة طيبة وحميمة مع الله، وأن الآخرين جميعهم ملعونون محتقرون من قبله سبحانه، لذلك فهو أيضاً يلعنهم ويحتقرهم.
والمحتكر على يقين أنه من أهل الجنة ونعيمها، وأن الآخرين هم من أهل الجحيم وعذابها. وعلامات هذا المرض عديدة أبرزها وأكثرها وضوحاً للعيان هي التعصب والتطرف والعنف. وهي علامات مبكرة لهذا المرض الذي إذا اشتد على صاحبه جعل منه مجرماً عقائدياً يستبيح دماء أبناء الديانات الأخرى وهو مرتاح الضمير ضاناً أنه يتقرب إلى الله بفعلته تلك.
وقد شهد التاريخ حوادث عديدة تكشف جرائم أولئك المحتكرين أبرزها الصراعات أو الحروب الدينية التي لا يخلو منها زمان أو مكان إلا فيما ندر. وهي حروب يخوضها أناس يؤمنون بأنهم على حق وأن أعدائهم على باطل، وأنهم من أتباع الله وأعدائهم من أتباع الشيطان، وأنهم سوف يدخلون الجنة وأعداءهم سوف يدخلون النار.
يرى اليهودي أن كل من لم يختاره الله لا يمكن له النجاة، فهو يعتقد بأن اليهود هم شعب يهوه المختار ودليله على ذلك، حسب أقوال الكهنة، أن يهوه أقام لعدة مرات ميثاقاً مع هذا الشعب فقط دون غيره. والمسيحي يرى أن الخلاص لا يتحقق إلا بالإيمان بالمسيح لأنه الطريق الوحيد إلى نعيم الآخرة. أما المسلم فيرى أن الدين عند الله الإسلام، وهو يفهم أن الإسلام هو القرآن والسنة، ومن لم يؤمن بهما فليتبوأ مقعده من النار. وهذا ما جعل أبناء هذه الديانات يتصارعون فيما بينهم إلى خوض الحروب واستباحة الدماء واحتلال البلدان وتشريد الأطفال إلى غير ذلك الكثير.
ولعلي لا أغالي إذا قلت أن أشد الناس تعرضاً للإصابة بمرض احتكار الحقيقة هم رجال الدين أو من يظهرون بمظهرهم. فنحن نجد علامات هذا المرض واضحة في كتاباتهم، فقد كتب احد رجال الدين اليهود قائلاً: (كل شيء في هذا الكون مخلوق من اجل اليهودي, وغير اليهود مخلوقات شيطانية). وكتب رجل دين مسيحي: (الجميع خطاة مرضى بداء الخطيئة، والعلاج الوحيد للخطيئة هو الإيمان بالمسيح وقبوله فادياً ومخلصاً. وليس بأحد غيره الخلاص من الخطيئة، لا في مصر ولا في أمريكا ولا في أي بلاد العالم. ولم يكن غيره في أي عصر ولن يكون إلى يوم القيامة). وكتب رجل دين مسلم قائلاً: (إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية. والمجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم. وتدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض. مثل المجتمعات الشيوعية، والوثنية، واليهودية، والنصرانية، وحتى بعض تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة).
ومن الجدير بالذكر أن الاحتكار لا يقف عند مستوى الأديان بل يتعداه إلى المذاهب، فلم يعد الاحتكار دينياً بل أصبح مذهبياً، بمعنى أن المذاهب المتعددة ضمن الدين الواحد تتصارع فيما بينها حول أيها يحتكر الجنة، فالمسيحي البروتستانتي يتصارع مع المسيحي الكاثوليكي، وكذلك يفعل المسلم الشيعي مع المسلم السني، وظني أن جنة الله تسع الجميع إذا اتسعت قلوبنا لمحبة الجميع.
ديني أم دين آبائي؟
لعل جميعنا يتعصب لدينه ويرى فيه الحق المطلق والصراط المستقيم، ولكن من منا اختار دينه هذا؟ فجميعنا اتخذنا دين آباءنا ضانين انه اختيارنا المحض، في حين أنه اختيار آباءنا ومجتمعنا لنا، لذا فأن الدين في نظري هو اعتناق عاطفي وليس عقلي، لأنه إذا كان اسم أبي محمد وأمي خديجة كتبوا في بطاقة هويتي مسلم، أما إذا كان أسم أبي جورج وأمي ريتا كتبوا في بطاقة هويتي مسيحي، وهكذا في بقية الديانات، بل الأغرب من ذلك انه لو كان اسم أبي عمر وأمي عائشة أصبحت سنياً وإذا كان أبي علي وأمي فاطمة أصبحت شيعياً، كل هذا يحدث لي وعمري لم يتجاوز بضعة أشهر!! هل تصدق هذا؟.
إذا لم أختر أنا ديني ولم تختر أنت دينك، فلماذا أتعصب أنا إلى ديني واعتقد أنه يحتكر الحقيقة؟ ولماذا تتعصب أنت إلى دينك وتعتقد أنه يحتكر الحقيقية؟ لماذا احتكر أنا الجنة وانسب لك الجحيم؟ ولماذا تفعل أنت ذلك بالمقابل؟. ما أريد قوله هو أن لا تستريح لدين أبويك ولا تستسلم أو تطمئن لعقائده. فما آمن به أبويك ليس بالضرورة أن يكون هو الحق المطلق. وهذا لا يعني أن تتمرد على هذا الدين ولكن هذا يدعوك بالتأكيد إلى الدراسة والتأمل والبحث والتقصي، وإذا لم تستطع القيام بذلك فلا تدعي لنفسك احتكار الحقيقة والجنة، فلربما يكون الآخر المخالف لك خيراً منك ولربما يكون نصيبه في الجنة أكبر منك.
ظني أن كل الديانات جاءت لأجل نقد احتكار الإنسان للحقيقة، ولكن الدين نفسه أصبح فيما بعد من أهم مصادر احتكار الحقيقة، وذلك لان اعتناق الدين صار يحدث بالوراثة وليس بالعقل والتأمل والبحث والتقصي كما كان الحال في الزمن الأول لظهور الدين. لعلي لا أغالي إذا قلت أن الدين الذي نؤمن به جمعينا هو دين الوراثة، وحتى الكثير من أولئك الذين يدّعون لأنفسهم الدراسة والبحث والتقصي لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عقدة احتكار الحقيقة، لأن العقل متحيز بطبيعته، فقط القلة النادرة هي التي استطاعت أن تفعل ذلك وتتجاوز محيطها الاجتماعي ودينها الموروث إلى فضاءات تقبل الآخر واحترامه. وما فعله هؤلاء القلة هو الذي نريد من الجميع أن يفعلوه. بمعنى أن نتخلى جميعنا عن اعتقادنا الجازم باحتكار الحقيقة، وهذا بالطبع لا يتطلب منا التخلي عن امتلاك الحقيقة، فالامتلاك يسمح بوجود الآخر المخالف أما الاحتكار فلا يقبل بذلك. أن إيماني بامتلاك الحقيقة يسمح لي بان أنسب الحقيقة إلى الآخرين أيضاً، أما إذا ادعيت احتكارها فان الآخر سوف لن يملك عندئذ سوى الضلال والزيف، لذلك علينا أن نتخلى عن ادعاء احتكار الحقيقة ولا بأس بأن نسعى لامتلاكها بالبحث والدراسة والتقصي.
ختاماً أود التساؤل عن جدوى كتابة ديانة أي فرد في بطاقته الشخصية؟. فقد سألت نفسي هذا السؤال ولم أجد له إجابة، ولعل الكثيرين غيري فعلو ا ذلك ولم يجدوا إجابة أيضاً. فبطاقتي الشخصية هي عقد مواطنة بيني وبين حكومة بلدي، تضمن لي حقوقي وتفرض علي واجباتي، فهل هذا العقد بحاجة إلى ذكر ديانتي؟ هل تفرق الحكومة في معاملتها بين مسلم ومسيحي مثلاً، فلجأت إلى حيلة ذكر الديانة في البطاقة الشخصية؟ يبدوا أن الإجابة نعم وإلا ما كانت لتصر على مثل هذا الإجراء، أما إذا كانت الإجابة بلا ، فما فائدة كتابة ديانتي في بطاقتي الشخصية
عقدة الزواج الطائفي
كان يحدثني عن خصائص الفتاة التي يمكن لها أن تكون شريكة حياته، ولم أتعجب من تقديمه للشروط الجسدية على أي شرط عقلي أو عاطفي آخر، ولكن ما أدهشني حقاً هو قوله أنه يشترط أن تكون على مذهبه، وأكرر مذهبه وليس دينه. أنه يريد زواج أحادي المذهب وليس فقط أحادي الدين. وهذا النوع من الزواج أحادي المذهب تقف وراءه أزمة طائفية وليست دينية فقط، فإذا كان الدين يفرق بين أبناء الديانات المختلفة، فأن الطائفية تفرق بين أبناء الدين الواحد. ونحن نرى إن بناء أسرة على أساس متعمد من الزواج أحادي المذهب هو تكريس للطائفية المقيتة التي لا تجلب إلى الأوطان سوى الدمار والخراب. وإن أي دعوة إلى الزواج مختلف المذهب هي دعوة إلى نبذ هذه الطائفية. ولا يضن القارئ أن الدعوة إلى الزواج مختلف المذهب دعوة يسيرة التحقق، فالمتأمل لواقع الزواج يجد أنه عادة ما يبنى على أسس مذهبية وطائفية، فالتوافق المذهبي أصبح شرطاً للزواج في العديد من بلدان العالمين الشرقي والغربي، وليس العربي والإسلامي فحسب. ولعل عقدة الزواج الطائفي هذه هي احد النتائج الطبيعية لعقدة احتكار الحق والحقيقة التي تعاني منها جميع الديانات في العالم تقريباً.
ولقد وجدت أن الزواج أحادي المذهب لا يصدر عن الدين الشعبي فقط، كما كنت أضن، بل أنه من ابتكارات الدين الرسمي، الذي هو دين المشتغلين بالشأن الديني كرجال الدين والباحثين والدارسين. فهذا رجل دين مسيحي من كُتاب اليوميات (الذي هو كتاب الصلوات اليومية) يتحدث في تأملاته الإيمانية وفي اليوم السادس منها عن عدم إمكانية زواج المسيحي البروتستانتي من المسيحية الكاثوليكية، لأنها لم تولد ولادة جديدة، وهي الفكرة التي يؤمن بها البروتستانت وتنص على أن الإنسان له ولادتان أحداهما بيولوجية وأخرى روحية فحواها الإيمان بخلاص المسيح، لذلك نجده يكتب: (العالم كله ينقسم إلى وطنين مختلفين لا يجوز لمواطن من أحدهما أن يتزوج من الوطن الآخر ـ وطن أرضي ووطن سماوي ـ أبناء الوطن السماوي هم الذين ولدوا الولادة الجديدة، والذين لم يولدوا كيف يكون لهم وجود في عرف الذين ولدوا؟). إنه لا يكتفي في أن يمنع زواج البروتستانتي من الكاثوليكية بل يعد الكاثوليكية غير موجودة أصلاً لأنها لم تولد بعد. ومن الجدير بالذكر أن جميع المسيحيين مهما تعددت طوائفهم ومذاهبهم يؤمنون بخلاص المسيح إلا أن كل منهم يفهم هذا الخلاص بطريقة معينة قد تختلف عن الآخر.
تزداد عادةً نسبة انتشار الزواج أحادي المذهب في فترات الصراعات الطائفية. فعلى الرغم من عدم امتلاكي لإحصائيات دقيقة إلا أني استطيع القول، ومن خلال مشاهدتي للواقع الاجتماعي في العراق، أن عقدة الزواج الطائفي بين السنة والشيعة ازدادت في سنوات الاحتلال الأمريكي نتيجة للجذب والشد السياسي والديني بين أبناء الطائفتين. ولا أقصد بالطبع أن هذا النوع من الزواج لم يكن موجوداً في السابق، كلا.. ولكننا اليوم نعاني منه بصورة أكبر واشد.
إن ما يدعونا إلى الحديث عن ظاهرة الزواج الطائفي أو الزواج أحادي المذهب هو رغبتنا في التأكيد على أن كل خطابات الوحدة التي يدعوا لها رجال الدين لا معنى لها في نظرنا ما لم تُستثمر في تعزيز الترابط الاجتماعي بين أبناء هذه الطوائف أو المذاهب، ومن أبرزها رابطة الزواج الذي يقود إلى تأسيس أسرة تشكل نواة التآلف الاجتماعي، فالأسرة التي يولد أبناءها من أبوين مختلفين في المذهب تجدهم في الغالب أكثر تسامحاً من أبناء الأسرة أحادية المذهب.
أخيراً نود القول، إن الخطب الدينية الوحدوية لا قيمة لها إذا لم تصبح جزئاً من الواقع. وأن رجل الدين الذي يدعو إلى الوحدة والتآلف بين الطوائف المختلفة ثم يمنع الزواج بين أبنائها، فأن أقل ما يمكن أن يقال بحقه أنه (كذاب).
* كاتب عراقي يقيم في أمريكا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق